فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [45].
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته؛ لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال فقال: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك ففهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: {إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.

.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [46].
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي: الموعود إنجاؤهم، بل من المستثنين لكفرهم، أو ليس منهم أصلاً، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.
قال القاشاني: أي: أن أهلك في الحقيقة: هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ألا وإن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته.
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح، تنبيهاً على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، وإنه لتماديه في الفساد والغي، كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحاً بأن سبب النجاة ليس إلى الصلاح، لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له لا نجاة له، وهذا سر إيثار: {غَيرُ صَالِحٍ} على عمل فاسد.
وقد قرأ يعقوب والكسائي {عَمِلَ} بلفظ المضي، والباقون بلفظ المصدر، بجعله نفس العمل، مبالغة، كما بينا.
{فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تلتمس مني ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلاً، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله، كما هنا، لا عن السؤال للاسترشاد.
{إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه عليه السلام عند ذلك التأديب الإلهي والعتاب الرباني، وتعوذ بقوله:

.تفسير الآية رقم (47):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [47].
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} أي: ما فرط مني: {وَتَرْحَمْنِي} أي: بالوقوف على ما تحب وترضى: {أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} أي: الذين خسروا أنفسهم، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك.
تنبيه:
ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته، ربيبه. وأيده بعضهم بقراءة علي: {ونادى نوح ابنها}- والله أعلم-.
ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح، بعد أن أرست السفينة على الجودي، بقوله:

.تفسير الآية رقم (48):

القول في تأويل قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [48].
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} أي: انزل من السفينة: {بِسَلاَمٍ مِّنَّا} أي: سلامة: {وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} أي: في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان: {وَأُمَمٌ} أي: ومنهم أمم: {سَنُمَتِّعُهُمْ} أي: في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها: {ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.
لطيفة:
ذهب العلماء، في الطوفان، مذاهب شتى. فالأكثرون على أنه عمَّ الأرض بأسرها، ومن ذاهب إليه أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم. ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه:
قال تقي الدين المقريزي في الخطط: إن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحاً هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد كيومرت الذي هم عندهم الإنسان الأول كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين، والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] ونحوه في الكامل لابن الأثير.
وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أباً ثانياً للخليقة- انتهى.
قال بعضهم- في تقرير عموم الطوفان، مبرهناً عليه- إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسراً فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى- انتهى-.
وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان، وعموم رسالة نوح، فأجاب بما صورته:
أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على الطوفان، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الإطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم. فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية، على أن الطوفان كان عاماً لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال؛ لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاماً، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاماً، لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً، إذ لم يكن العمران قائماً إلا بقوم نوح، فكان عاماً لهم، وإن كان من جهة خاصاً بهم؛ إذ ليس ثمَّ غيرهم، قال:
هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة، إذا مضت عليها قرون ولدت أمماً، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان، فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام تعلم أن الطوفان خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان- والله أعلم-.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (49):

القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [49].
{تِلْكَ} إشارة إلى قصة نوح عليه السلام: {مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} أي: الإيحاء إليك، والإخبار بها. وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها؛ إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها، فكيف بواحد منهم؟!: {فَاصْبِرْ} أي: على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه- كذا في الكشاف-: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} أي: في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي {لِلْمُتَّقِينَ} أي: عن الشرك والمعاصي.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [50].
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} عطف على قوله {نوحاً}. أي: وأرسلنا إلى عاد و{أخاهم} بمعنى واحداً منهم كما يقولون: يا أخا العرب {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ} أي: وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} أي: باتخاذ الأوثان شركاء وجعلها شفعاء.

.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [51].
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} إنما خاطب كل رسول به قومه، إزاحة للتهمة، وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: تتفكرون، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، أو تتدبرون الصواب من الخطأ.

.تفسير الآية رقم (52):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} [52].
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْْ} أي: من الوقوف مع الهوى بالشرك: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِْ} أي: من عبادة غيره، بالتوجه إلى التوحيد: {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} أي: كثيرة الدر، أي: الأمطار، منصوب على الحال من {السماء} ولم يؤنث مع أنه من مؤنث، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر، فذكر على المعنى، أو مفعال للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو الهاء حذفت من مفعال على طريق النسب- أفاده السمين-: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي: مضمومة إليها أو معها. أي: شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية، أو بالمال أو البنين. وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر، وزيادة القوة؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، حراصاً على التقوى بما ذكر، لثراء مالهم وترهيب أعدائهم وقد كانوا مثلاً في القوة، كما قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: من الآية 15]، {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} أي: تعرضوا عما أدعوكم إليه: {مُجْرِمِينَ} أي: مصرين على إجرامكم وآثامكم.

.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [53].
{قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي: بحجة تدل على صحة دعواك، وذلك لقصور فهمهم، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان؛ لمكان الغشاوات الطبيعية، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} أي: عبادتها: {عَن قَوْلِكَ} حال من ضمير {تاركي} أي: تركاً صادراً عن قولك، أو {عن} للتعليل، كهي في قوله: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَة} [التوبة: من الآية 114]، أي: لأجلها، فتتعلق بتاركي والأول أبلغ؛ لدلالته على كونه علة فاعلية، ولا يفيده الباء واللام. وهذا كقولهم في الأعراف: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: من الآية 70].
{وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي: مصدقين. إقناط له من الإجابة.

.تفسير الآيات (54- 55):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [54- 55].
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ} أي: مسَّك: {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} أي: بجنون، لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، ومن ثم تتكلم بما تتكلم.
قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة، غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم {قَالَ إِنِّي أُشْهِد اللّهِ} أي: علي: {وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ} قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحد، وذلك لثقته بربه، وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: من الآية 71].
أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد، فيقول الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه، عليه السلام، دون إمهال، بقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أي: أنتم وآلهتكم: {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} يعني إن صح ما لوحتم به، من كون آلهتكم لها تأثير في ضر، فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال.
قال أبو السعود: فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا، وعلى البراءة كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير، من عتاة عاد، الغلاظ الشداد. وقد خاطبهم بما خاطبهم، وحقرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة مبادئ المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازّة والمعارّة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال: